ظاهرةٌ جدًا علاقة سورة الإسراء بـ (عبده) صلى الله عليه وسلم الذي بدأت السورة بذكره ..
سورة الإسراء فيها مخاطبة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم لا تتكرر كثيرًا بهذا النمط في سور القرآن ..
ومن معالم ذلك النمط كثرة الإفراد في المخاطبة، وتكرر الألفاظ المُشعرة بالخصوصية والقُرب والود، حتى الفصل بحرف الألف معين على ذلك الشعور ..
[انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض]
[لا تجعل مع الله ..]، [وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه]، وتأمل هذا خصوصية [ربك] مع كون الخطاب عامًا بعد ذلك!
[واخفض لهما]، [وآت ذا القربى]، إلى آخر ذلك السياق ..
[انظر كيف ضربوا لك الأمثال ..]
بالإضافة إلى كثرة المخاطبة بـ [قل]، وغير ذلك مما هو ظاهر في سياق السورة ..
وكأن السورة تجالس النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك أمته من ورائه - فردًا، تحدثه عن عظمة ذلك الكتاب، ونعمة الله، وكفر العباد، وسنة الله في الكون ..
تحدثه عن لب الإسلام، ومركزيات ذلك الدين وشخصية حامليه ..
تحدثه عن عظمة الله وجحود الظالمين، وأصل الشرور في الخلق ..
تثبته وتدافع عنه وتعظه ترغيبًا وترهيبًا ..
تبدأ السورة بإسراء الله سبحانه لعبده، وهذا فيه تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، ورفع لقدره، واحتجاج له ..
ثم ينقلنا الكلام عن المسجد الأقصى إلى بني إسرائيل ودرس الارتباط بين الإفساد في الأرض والضعف والتشريد، ليعتبر قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كذلك، وليعلموا سنة الله في عباده ..
ثم يحدثنا ربنا عن المشكاة القرآنية التي تهدي الناس في سفر الحياة، وعن الذين أعرضوا عنها فاختطفتهم الظلمات، وعموا عن رؤية الآيات، وأثر ضلالهم هذا في الدنيا والآخرة ..
ثم يحدثنا ربنا عن أصول ذلك الدين في الاعتقاد والمعاملة والأخلاق والسلوك، وعن شخصية حامل ذلك الدين وصفته، وعن عظم ذلك التشريع وحكمته البالغة.
ثم يحدثنا ربنا عن ضلالات المشركين في التوحيد والبعث، وعن تنزهه سبحانه عن هذه النقائص، وعن طائفة من شبهات هؤلاء الجاحدين وتعرية ما فيها الفساد.
ثم يحدثنا ربنا عن أصل الضلالات، وعن معركة إبليس التي يغفل عنها العباد، ثم يحدثنا عن الفطرة الفاضحة لضلال المرء في قلب الشدائد والبلاءات ..
[وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا]
ثم يحدثنا ربنا عن وظيفتنا في هذه الصراع، وعن معالم إيماننا أمام هذا الكفر ..
ينهانا عن الركون لكفرهم، والرضوخ لفتنتهم ..
يأمرنا بإقامة الصلاة وتعليق القلوب بالمحاريب ..
يأمرنا بالصدع بالحق واستصغار الباطل ..
يدعونا إلى شفاء القرآن، ترياق القلب العليل ..
ثم يحدثنا ربنا عن بعض شبهات المشركين وتعنتهم وجحودهم ..
ثم يحدثنا ربنا عن موسى عليه السلام وعن بني إسرائيل، تثبيتًا لنا بهذه العلم الغيبي الذي نزل على النبي الأمي، واعتبارًا وتأملًا في سنة الله ..
قال الله لنبيه في هذه السورة فيما سبق [وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذًا لا يلبثون خلافك إلا قليلًا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلًا]
والآن يخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ويخبرني ويخبرك عن فرعون، وتأمل استعمال نفس اللفظ [فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعًا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض..]
ثم البيان الختامي العظيم عن القرآن، وتعظيمه، والخضوع للحق، وعن تسبيح الله وتنزيهه الذي تكرر كثيرًا في هذه السورة ..
ثم هذه الخاتمة البديعة التي بلغت الغاية في البلاغة والإيجاز، التي لو طفقنا نتكلم عن أسرارها لاحتجنا إلى منشور مستقل ..
[وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريكٌ في الملك ولم يكن له وليٌ من الذل وكبره تكبيرًا]
#لباب_البيان
الكاتب: د. كريم حلمي